أنس حمدون
كلما طُرح الحديث عن ضرورة العمل السوري لبناء مشروع وطني حقيقي، يأتي الجواب جاهزًا: القرار ليس بأيدينا.
وكأننا أمام مقولة حتمية لا تقبل النقاش، مفادها أن العواصم الدولية هي صاحبة القرار، وأن دور السوريين لا يتعدى تحمّل نتائج سياسات تُرسم في الخارج.
ويزداد هذا الخطاب شيوعًا في اللحظة الراهنة، حيث تشهد المنطقة تحوّلات حادة تقودها قوى إقليمية ودولية، فيبدو التذرّع به وكأنه الذكاء بعينه، أو شكل من أشكال “الحكمة الواقعية” التي تقتضي فهم موازين القوى العالمية، والامتثال لها كما لو كانت قوانين فيزيائية لا تخطئ.
يمكن الاعتراض على هذا الخطاب من محورين:
أولًا، لأنه يمثل شكلًا ناعمًا من الخضوع والتخلّي عن المسؤولية، ويُستخدم كأداة لتبرير العجز والانسحاب من الفعل.
هو خطاب الضحية الذي يقول: “نريد التغيير، لكننا لسنا من يقرّر”، ثم يكرّر أسماء العواصم ومراكز القرار كأنها تعويذة تُعفي من الفعل.
في الحقيقة، هو خطاب يزيل عن الذات مسؤوليتها، ويكرّس دور المتلقي لما يقرّره الآخرون.
هذه الظاهرة معروفة في علم النفس الفردي، وتسمّى بـ”الإسقاط الخارجي” للمسؤولية: حين يعجز الإنسان عن الاعتراف بقدرته، أو يخاف من الفعل، فيُنكر ذاته الفاعلة ويتماهى مع عجزه.
ثانيًا، هذا الخطاب غير دقيق من حيث الواقع. وهو ما أكّده لي مؤخرًا لقاء مع شخصية ذات نفوذ إقليمي كبير، وعلى تماس مباشر مع دوائر القرار. خلال حديثنا عن سوريا وإمكانية وجود بدائل للسلطة الحالية، كان جوابه مباشرًا:
“نحن لا نُنتج البدائل. نحن نتعامل مع الواقع. لا نخلق شيئًا من عدم. ببساطة، نراقب القوى الفاعلة على الأرض، ومن يفرض نفسه ويبرهن أنه يمتلك التأثير، نتعاون معه بما يخدم مصالحنا. في الواقع، أنتم تنسبون إلينا دورًا أكبر بكثير مما نمارسه.”
كان التصريح باردًا في نبرته، لكنه شديد الواقعية. لا ينفي التأثير الخارجي، لكنه يضعه في حجمه الطبيعي: الخارج لا يصنع البدائل، بل يراهن على من يصنعها.
ومن هنا تأتي الخلاصة: لا مهرب لنا من تحمّل المسؤولية.
نحن، السوريين، أصحاب المصلحة الأولى، والجهة الوحيدة القادرة على رسم معالم بديل وطني حقيقي.
هذا لا يعني تجاهل البيئة الدولية أو الإقليمية، ولا المصالح المتداخلة والمعوّقات الجسيمة، لكنه يعني ببساطة أننا المعنيون الأوائل، وأن الاستسلام لثنائية “الداخل المعطوب والخارج المقرِّر” هو طريق مضمونة للفشل.
نحن بحاجة إلى شجاعة سياسية وأخلاقية، لا فقط لرفض الواقع القائم، بل لتحمّل مسؤولية تغييره. بحاجة إلى مشروع وطني جامع، بأدوات فعلية، وبخطاب عقلاني قادر على أن يُقنع، لا فقط أن يشكو.
البديل لا يُولد من أمنية، ولا من تنظير مجرّد، بل من بنية فعلية، قادرة على التنظيم، والتحالف، والتأثير. وهذا يعني عمليًا ضرورة بناء تيار سياسي وطني، لا يقوم فقط على المعارضة الأخلاقية أو الشعارات الثورية، بل على تصوّر واضح للدولة، وللعقد الاجتماعي الجديد، ولموقع سوريا في العالم.
وهذا البديل لا يمكن اختزاله بتيار فردي أو مجموعة مغلقة. بل هو مشروع جامع، تراكمي، قد يبدأ في الشتات بفضل ما فيه من مساحة نسبية للحرية، ومن خبرات وكفاءات، لكن لا يمكن له أن يكتمل إلا عبر امتداده إلى الداخل، واتصاله الحقيقي مع المجتمع السوري بكل فئاته.
لا مشروع وطني دون الداخل، ولا بديل سياسي دون قدرة على التمثيل الحقيقي، ولا تمثيل بلا تواصل حيّ مع الناس لا يتوقف عند اللغة، بل يشمل القضايا والهموم والتفاصيل اليومية.
البديل لا يُفرض بقرار خارجي، ولا يُنتظر من جهة ما. بل يُبنى خطوة خطوة: بخلق مساحات للتفكير، والجمع، والتلاقي، وتجاوز الانقسامات القديمة التي أجهضت فرصًا سابقة.
والأهم أن التحوّل يبدأ من هنا: من الاعتراف بأننا : أصحاب المسؤولية والقرار ..