تطبيع ميتر
مايو 19, 2025
أثار تقرير نشرته شبكة “ABC News” الأمريكية عاصفة من الجدل السياسي والحقوقي، بعد كشفه عن “خطة مزعومة” للإدارة الأمريكية تهدف إلى تهجير نحو مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى ليبيا. ورغم النفي الرسمي الذي صدر لاحقًا من السفارة الأمريكية في طرابلس، إلا أن فحوى التقرير سلط الضوء مجددًا على المخاوف الفلسطينية من محاولات تصفية القضية عبر حلول “تهجيرية” تتكرر بأشكال مختلفة منذ نكبة 1948.
فما أبعاد هذه المزاعم؟ وما سياقها السياسي؟ ولماذا تُطرح ليبيا تحديدًا كوجهة؟ وهل يعكس هذا الحديث واقعًا قائمًا أم مجرد اختبار للرأي العام؟
أولًا: فحوى التقرير الأمريكي ومصادره
بحسب ما نشرته “ABC News”، فإن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ناقشت فعليًا خطة لإعادة توطين ما يصل إلى مليون فلسطيني من غزة داخل ليبيا، ضمن مقترحات سريّة، شارك فيها مسؤولون أمريكيون سابقون، وشخصان على اطلاع مباشر على ما دار من مشاورات.
أبرز ما كشفه التقرير:
نقاش أمريكي مع القيادة الليبية بشأن نقل الفلسطينيين إلى ليبيا.
عرض مقابل: الإفراج عن مليارات الدولارات من الأموال الليبية المجمدة لدى الولايات المتحدة.
بحث حوافز للفلسطينيين تشمل السكن المجاني ومساعدات مالية لجذبهم نحو مغادرة غزة.
ورغم أن التقرير أكد عدم وجود اتفاق نهائي، فإنه أشار إلى أن الاحتلال الإسرائيلي أُحيط علمًا بهذه النقاشات، ما يضيف بعدًا إقليميًا حساسًا للقضية.
ثانيًا: نفي أمريكي سريع وغامض
ما إن نُشر التقرير، حتى سارعت السفارة الأمريكية في طرابلس لنفيه ببيان مقتضب عبر منصة “إكس”، قالت فيه:
“التقرير حول خطط مزعومة لنقل سكان غزة إلى ليبيا، تقرير عارٍ عن الصحة.”
كذلك، رفض المتحدث باسم الخارجية الأمريكية الإدلاء بتفاصيل، مكتفيًا بالقول إن “الخطة لم تُطرح أصلًا ولا معنى لها”، معتبرًا أن “الوضع على الأرض لا يحتمل مثل هذه المقترحات”.
لكن لافتًا أن هذا النفي لم يترافق مع تفنيد واضح للتفاصيل المنشورة، ولا بأي إشارة إلى الخطوات التي اتخذت لوقف أي تفكير في هذا الاتجاه، وهو ما أثار شكوكًا لدى مراقبين بشأن حقيقة ما يجري في كواليس صنع القرار الأمريكي.
ثالثًا: الموقف الفلسطيني – رفض قاطع
في تصريح لشبكة NBC News، قال باسم نعيم، عضو المكتب السياسي لحركة حماس، إن الحركة ليست على علم بأي محادثات أو خطط من هذا النوع، مشددًا:
“الفلسطينيون متجذرون في وطنهم، ومستعدون للقتال حتى النهاية من أجل أرضهم.”
وأكد نعيم أن أي حديث عن التهجير مرفوض جملة وتفصيلًا، وأن “مصير سكان غزة يقرره الفلسطينيون وحدهم”، وليس عبر قرارات تُطبخ في غرف مغلقة.
رابعًا: لماذا ليبيا؟
يثير اختيار ليبيا كوجهة مفترضة للتهجير تساؤلات عديدة، أبرزها:
الوضع الأمني والسياسي الهش: ليبيا تعاني من انقسام سياسي وصراعات مسلحة، ما يجعلها غير صالحة لأي مشروع توطين إنساني جاد.
الضغط المالي على الدولة الليبية: التقرير أشار إلى استخدام الأموال الليبية المجمدة كورقة ضغط لإقناع السلطات المحلية بالموافقة.
غياب الإرادة الشعبية: لا توجد مؤشرات على وجود قبول أو ترحيب شعبي أو رسمي ليبي بهذا المخطط.
استخدام ليبيا كأداة في سياسات الهجرة الأمريكية: سبق أن طرحت الإدارة الأمريكية ترحيل لاجئين ومهاجرين غير شرعيين إلى ليبيا، وهو ما تعطّل مؤخرًا بقرار قضائي.
ما يشير إلى نمط أمريكي في التعامل مع ليبيا كمساحة فارغة يمكن استغلالها في مشاريع إعادة التوطين أو “تصدير الأزمات”.
خامسًا: البعد الاستراتيجي والحقوقي
يثير تقرير التهجير – سواء أكان دقيقًا أو لا – جملة من المخاوف:
إحياء مشاريع الترانسفير القديمة التي طُرحت منذ خمسينيات القرن الماضي بهدف تفريغ فلسطين من سكانها.
تصفية تدريجية للقضية الفلسطينية عبر تهجير سكان غزة، بعد محاولات تقويض وكالة الأونروا، وتجفيف الدعم الإنساني، وفرض الحصار.
خطر تشريد شعب بأكمله من أرضه التاريخية، ما يمثل جريمة بموجب القانون الدولي الإنساني، وينتهك مبدأ عدم جواز التهجير القسري.
استخدام المال كورقة ابتزاز سياسي لإرغام اللاجئين والدول المضيفة على القبول بحلول مجتزأة تخدم أجندات إقليمية.
سادسًا: ردود الفعل الإقليمية والدولية – غائبة حتى الآن
حتى اللحظة، لم تصدر مواقف رسمية من:
السلطات الليبية بشأن ما إذا كانت قد استُشيرت فعلًا في خطة كهذه.
الجامعة العربية أو الأمم المتحدة بشأن مدى قانونية أو أخلاقية مثل هذا المقترح.
الدول العربية المؤثرة، مثل مصر وقطر والأردن، بشأن موقفها من احتمال نقل سكان غزة إلى بلد عربي آخر.
وهذا الصمت يُفسَّر في أوساط سياسية إما على أنه حذر دبلوماسي، أو عدم رغبة في الدخول في صدام مباشر مع إدارة ترامب في ظل صراع إقليمي متسارع.
خاتمة: تهجير غزة إلى ليبيا – مشروع دفنته الوقائع أم مناورة اختبار؟
قد يكون نفي السفارة الأمريكية كافيًا لنفي وجود خطة رسمية وموثقة، لكن مجرد تسريب فكرة كهذه، وتداولها على لسان مصادر مطلعة، يعكس ما يلي:
وجود تفكير أمريكي أو إسرائيلي استراتيجي قديم – متجدد، يقوم على تفريغ غزة من سكانها بدلًا من حل القضية.
محاولة جس نبض الرأي العام الدولي، وقياس رد الفعل الفلسطيني والعربي.
استخدام ورقة التهجير كورقة ضغط على حماس والفصائل لفرض خيارات ميدانية وسياسية محددة.
ويبقى التهجير القسري، أيا كان شكله، خطًا أحمر فلسطينيًا، وشبحًا تاريخيًا يعيد التذكير بنكبة لم تنتهِ بعد.